فصل: فصل: صفة ذبح الأضحية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وأما المسألة الثالثة‏:‏ فنقول‏:‏ فـإذا كان قـد تبين بما ذكرناه مـن السنة واتفاق سلف الأمـة أنه لا يستحب، بل تكره الموالاة بين العمرة لمن يحرم من الميقات، فمن المعلوم أن الذي يوالي بين العمر من مكة في شهر رمضان أو غيره أولي بالكراهة، فإنه يتفق في ذلك محذوران‏.‏

أحدهما‏:‏ كون الاعتمار من مكة، وقد اتفقوا على كراهة اختيار ذلك، بدل الطواف‏.‏

والثاني‏:‏ الموالاة بين العمر، وهذا اتفقوا على عدم استح

بابه؛ بل ينبغي كراهته مطلقا فيما أعلم لمن لم يعتض عنه بالطواف، وهو الأقيس، فكيف بمن قدر على أن يعتاض عنه بالطواف‏؟‏‏!‏ بخلاف كثرة الطواف، فإنه مستحب مأمور به، لاسيما للقادمين‏.‏ فإن جمهور العلماء على أن طوافهم بالبيت أفضل لهم من الصلاة بالمسجد الحرام، مع فضيلة الصلاة بالمسجد الحرام‏.‏

/ فصل

وأما الاعتمار في شهر رمضان‏:‏ ففي الصحيحين والسنن عن عطاء سمعت ابن عباس يحدثنا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار ـ سماها ابن عباس فنسيت اسمها ـ‏:‏ ‏(‏ما منعك أن تحجي معنا‏)‏ فقالت‏:‏ لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها على ناضح، وترك لنا ناضحًا ننضح عليه، قال‏:‏ ‏(‏فإذا جاء شهر رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سنان ـ امرأة من الأنصار ـ‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تقضي حجة معي‏)‏‏.‏ وروي البخاري هذا الحديث من طريق جابر تعليقًا، وعن أم معقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏)‏ رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏

وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل، قالت‏:‏ لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل، وخرج /النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من حجته جئته، فقال‏:‏ ‏(‏يا أم معقل، ما منعك أن تحجي‏؟‏‏)‏‏.‏ قالت‏:‏ لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصي به أبو معقل في سبيل الله، قال‏:‏ ‏(‏فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

وروي أحمد في المسند عن أم معقل الأسدية، أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر فأبي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحج والعمرة في سبيل الله‏)‏‏.‏

فهذه الأحاديث تبين أنه صلى الله عليه وسلمأراد بذلك العمرة التي كان المخاطبون يعرفونها، وهي قدوم الرجل إلى مكة معتمرا، فأما أن يخرج المكي فيعتمر من الحل فهذا أمر لم يكونوا يعرفونه، ولا يفعلونه، ولا يأمرون به، فكيف يجوز أن يكون ذلك مرادًا من الحديث‏؟‏‏!‏ مع أن هذه المرأة كانت بالمدينة النبوية، وعمرتها لا تكون إلا من الميقات، ليست عمرتها مكية‏.‏

وكيف يكون قد رغبهم في عمرة مكية في رمضان‏؟‏‏!‏ ثم إنهم لا يأتون مافيه هذا الأجر العظيم، مع فرط رغبتهم في الخير، وحرصهم عليه، وهلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أهل مكة المقيمين بها؛ ليعتمروا كل عام في شهر رمضان، وإنما أخبر بذلك من كان /بالمدينة، لما ذكر له مانعًا منعه من السفر للحج، فأخبره أن الحج في سبيل الله، وأن عمرة في رمضان تعدل حجة، وهذا ظاهر؛ لأن المعتمر في رمضان إن عاد إلى بلده، فقد أتي بسفر كامل للعمرة ذهابًا وإيابًا في شهر رمضان المعظم، فاجتمع له حرمة شهر رمضان، وحرمة العمرة وصار ما في ذلك من شرف الزمان والمكان، يناسب أن يعدل بما في الحج في شرف الزمان، وهو أشهر الحج وشرف المكان‏.‏ وإن كان المشبه ليس كالمشبه به من جميع الوجوه، لاسيما في هذه القصة باتفاق المسلمين، وإن أقام بمكة إلى أن حج في ذلك العام فقد حصل له نسكا مكفرًا أيضا، بخلاف من تمتع في أشهر الحج، فإن هذا هو حاج محض وإن كان متمتعا، ولهذا يكون داخلا في الحج من حين يحرم بالعمرة‏.‏

يبين هذا أن بعض طرقه في الصحيح أنه قال للمرأة‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تعدل حجة معي‏)‏‏.‏ ومعلوم أن مراده أن عمرتك في رمضان تعدل حجة معي، فإنها كانت قد أرادت الحج معه فتعذر ذلك عليها، فأخبرها بما يقوم مقام ذلك، وهكذا من كان بمنزلتها من الصحابة ولا يقول عاقل ما يظنه بعض الجهال‏:‏ إن عمرة الواحد منا من الميقات أو من مكة تعدل حجة معه، فإنه من المعلوم بالاضطرار أن الحج التام أفضل من عمرة رمضان، والواحد منا لو حج الحج المفروض لم يكن كالحج معه فكيف بعمرة‏؟‏‏!‏ وغاية ما يحصله الحديث‏:‏ أن تكون عمرة أحدنا في /رمضان من الميقات بمنزلة حجة، وقد يقال هذا لمن كان أراد الحج فعجز عنه،فيصير بنية الحج مع عمرة رمضان كلاهما تعدل حجة،لا أحدهما مجردًا‏.‏

وكذلك الإنسان، إذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع أنه لو قدر لفعله كله، فإنه يكون بمنزلة العامل من الأجر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا‏)‏ وكذلك قال في الضلالة، وشواهد هذا الأصل كثير‏.‏

ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر، والذنوب، كما ينفي الكِير خَبَث الحديد، والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة‏)‏ رواه النسائي والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏(‏تابعوا بين الحج والعمرة‏)‏ لم يرد به العمرة من مكة، إذ لو أراد ذلك لكان الصحابة يقبلون أمره، سواء كان أمر إيجاب؛ أو استحباب، ولا يظن بالصحابة /والتابعين أنهم تركوا اتباع سنته، وما رغبوا فيه كلهم حتي حدث بعدهم من فعل ذلك، وإذا كانوا لا يعتمرون من مكة علم أن هذا ليس مقصود الحديث؛ ولكن المراد به العمرة التي كانوا يعرفونها، ويفعلونها، وهي عمرة القادم‏.‏

يبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عائشة بالعمرة من أدني الحل، مع أنها متابعة بين الحج والعمرة، ولو كانت المكية مرادة حين طلبت ذلك منه، أمرها أن تكتفي بما فعلته، وقال‏:‏ ‏(‏طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك، وعمرتك‏)‏‏.‏ فلما راجعته وألحت عليه أذن لها في ذلك، فلو كان مثل هذا مما أمر به لم يكن يأمرها ابتداء بترك ذلك، والاكتفاء بما دونه، وهي تطلب ما قد رغب الناس فيه كلهم‏.‏ ففي الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي وغيرهما عن عائشة أنها قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتي يحل منهما جميعا‏)‏، ثم قدمت مكة وأنا حائض، فلم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة‏)‏، ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدالرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏هذه /مكان عمرتك‏)‏، قالت‏:‏ وطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا‏.‏

وفي الصحيحين والسنن ـ أيضا ـ عن عائشة قالت‏:‏ لبينا بالحج حتي إذا كنا بسرف حضت، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال‏:‏ ‏(‏وما يبكيك يا عائشة‏؟‏‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ حضت، ليتني لم أكن حججت، فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله، إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم‏)‏، فقال‏:‏ ‏(‏انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت‏)‏، فلما دخلنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة، إلا من كان معه الهدي، وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء، وطهرت عائشة، قالت‏:‏ يارسول الله، أيرجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج‏؟‏‏!‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن أبي بكر، فأعمرها من التنعيم، فأتت بالعمرة‏.‏

وفي الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، عن جابر قال‏:‏ أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا، فأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتي إذا كانت بسرف عَرَكَت، حتي إذا /قدمنا طفنا بالكعبة، وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال‏:‏ فقلنا‏:‏ حل ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الحل كله‏)‏‏.‏ فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال‏:‏ ‏(‏ما شأنك‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج‏)‏، ففعلت ووقفت المواقف، حتي إذا طهرت طافت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قال‏:‏ ‏(‏قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا‏)‏، قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال‏:‏ فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة‏.‏ وفي رواية مسلم‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن، فأهلت من التنعيم بعمرة‏.‏

وروي مسلم في صحيحه عن طاوس عن عائشة‏:‏ أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حين حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر‏:‏ ‏(‏يكفيك/ طوافك لحجك، وعمرتك‏)‏، فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج‏.‏ وروي مسلم ـ أيضا ـ عن مجاهد عن عائشة‏:‏ أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يجزئ عنك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك‏)‏‏.‏ فهذه قصة عائشة‏.‏

وللفقهاء في عمرتها التي فعلتها قولان مشهوران‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول جمهور الفقهاء من أهل الحديث، والحجاز؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم‏:‏ أنها لما حاضت وهي متمتعة بالعمرة إلى الحج، فمنعها الحيض من طواف العمرة، أمرها النبي صلى الله عليه وسلمأن تحرم بالحج مع بقائها على الإحرام، فصارت قارنة بين العمرة والحج، إذ القارن اسم لمن أحرم بهما ابتداء، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج، قبل طوافها‏.‏ قالوا‏:‏ والأحاديث تدل على أن القارن ليس في عمله زيادة على عمل المفرد، إلا الهدي؛ فلهذا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما أحلت‏:‏ ‏(‏قد حللت من حجك وعمرتك جميعا‏)‏‏.‏

والقول الثاني‏:‏ وهو قول أبي حنيفة، ومن وافقه‏:‏ أنها لما حاضت أمرها أن ترفض العمرة، فتنتقل عنها إلى الحج، لا تفرق /بينهما بل تبقي في حج مفرد، قالوا‏:‏ فلما حلت حلت من الحج فقط، وكان عليها عمرة تقضيها مكان عمرتها التي رفضتها‏.‏ وعلى قول هؤلاء كانت العمرة التي فعلتها واجبة؛ لأنها قضاء عما تركتها‏.‏ وعلى قول الأكثرين لم تكن واجبة بل جائزة‏.‏ وحكم كل امرأة قدمت متمتعة فحاضت قبل الطواف على هذين القولين الأولين‏:‏ هل تؤمر أن تحرم بالحج فتصير قارنة، أم ترفض العمرة في الحج على القولين‏.‏

وفيها قول ثالث، وهو رواية عن أحمد‏:‏ أنها كانت قارنة، وعمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة الإسلام‏.‏

وفيها قول رابع، ذكره بعض المالكية، فامتنعت من طواف القدوم؛ لأجل الحيض، وأن هذه العمرة هي عمرة الإسلام‏.‏ وهذا القول أضعف الأقوال من وجوه متعددة، ويليه في الضعف الذي قبله‏.‏

ومن أصول هذا النزاع‏:‏ أن القارن عند الآخرين عليه أن يطوف أولا، ويسعي للعمرة، ثم يطوف ويسعي للحج، ويختص عندهم بمنعها من عمل القران، كما كان يمنعها من عمل التمتع‏.‏ والأولون ليس عندهم على القارن إلا طواف واحد، وسعي واحد، كما على المفرد، فإذا كانت حائضا سقط عنها طواف القدوم، وأخرت السعي إلى أن تسعي /بعد طواف الإفاضة وليس عليها غير ذلك‏.‏

وأهل القول الثاني بلغهم ما ثبت في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلمقال لها‏:‏ ‏(‏ارفضي عمرتك‏)‏‏.‏ واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتمر من التنعيم، فاعتقدوا أن ذلك صار واجبا للعمرة المرفوضة، وأن رفض العمرة هو تركها بالدخول في الحج المفرد‏.‏

وأما أهل القول الأول، فبلغهم من العلم مالم يبلغ هؤلاء، فإن قصة عائشة رويت من وجوه متعددة عنها، وعن غيرها كجابر وغيره، فانظر ما قالت وما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لها‏:‏ ‏(‏قد حللت من حجك وعمرتك جميعا‏)‏، وقال لها‏:‏ ‏(‏سعيك وطوافك لحجك وعمرتك‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك‏)‏‏.‏ فهذا نص في أنها كانت في حج وعمرة؛ لا في حج مفرد، وفي أن الطواف الواحد أجزأ عنها، لم يحتج إلى طوافين‏.‏

وأيضا، قد ثبت في السنن الصحيحة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدي من أصحابه كانوا قادمين، ولم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة حين قدموا إلا مرة واحدة‏.‏

/وأيضا، فإنها قالت له ـ لما قال لها ذلك ـ‏:‏ إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال‏:‏ ‏(‏فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم‏)‏، وكذلك قولها له‏:‏ أيرجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج‏؟‏‏!‏ فأمر عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم‏.‏ يدل على أنه لم يأمرها بالعمرة ابتداء، وإنما أجاب سؤالها لما كرهت أن ترجع إلا بفعل عمرة، فإن صواحبها كن في عمرة تمتع؛ طفن أولا، وسعين، وهي لم تطف وتسع إلا بعد التعريف، فصار عملهن أزيد من عملها؛ لأنه سقط عنها بالحيض الطواف الأول‏.‏

/ وسئل ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ عمن يقف بعرفة، ولا يمكنه الذهاب إلى البيت، خوفًا من القتل، أو ذهاب المال‏.‏ هل يجزئه الحج‏؟‏ أم لا‏؟‏ وفيمن يكون ببدنه أو رأسه أذي، فلبس وغطي رأسه‏:‏ هل تجب عليه الفدية‏؟‏ أم لا‏؟‏ وما هي الفدية‏؟‏ ومن لم يجد إلا بعيرًا حرامًا هل يجزئه الحج عليه، وما هو الإفراد‏؟‏ والقران‏؟‏ والتمتع، وما الأفضل‏؟‏ ومن لم يعلم ذلك هل يصح حجه، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد الله رب العالمين، لابد بعد الوقوف من طواف الإفاضة، وإن لم يطف بالبيت لم يتم حجة باتفاق الأمة، وإن أحصره عدو عن البيت، وخاف، فلم يمكنه الطواف، تحلل فيذبح هديا، ويحل، وعليه الطواف بعد ذلك، إن كانت تلك حجة الإسلام، فيدخل مكة بعمرة يعتمرها، تكون عوضا عن ذلك‏.‏

ولا يجوز له تغطية رأسه من غير حاجة، ولا لبس القميص والجبة ونحو ذلك، إلا لحاجة‏.‏ فإن خاف من شدة البرد أن يمرض لبس وافتدي أيضا، واستغفر الله من ذنوبه‏.‏

/والفدية للعذر أن يذبح شاة يقسمها بين الفقراء، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة فقراء، كل فقير بنصف صاع تمر‏.‏ وإن تصدق على كل واحد برطل خبز جاز‏.‏

ولا يجوز أن يحج على بعير محرم‏.‏

والأفضل لمن ساق الهدي أن يقرن بين العمرة والحج‏.‏ وإن لم يسق الهدي وأراد أن يجمع بين العمرة والحج فالتمتع أفضل، وإن حج في سفرة واعتمر في سفرة فالإفراد أفضل له‏.‏

وإذا أحرم مطلقا، ولم يخطر بباله هذه الأمور صح حجه، إذا حج كما يحج المسلمون‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

/ باب الهدي والأضحية والعقيقة

وقال ـ رحمه الله ‏:‏

 فصل

والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب به إلى الله، كان له أن يضحي به، والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة، والهدي بمكة أفضل من الصدقة بها، وإن كان قد نذر أضحية في ذمته فاشتراها في الذمة، وبيعت قبل الذبح كان عليه إبدالها شاة‏.‏

وأما إذا اشتري أضحية، فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء، وإن تعيبت عند الذبح أجزأ في الموضعين‏.‏

/وقال رحمه الله‏:‏ والأضحية من النفقة بالمعروف، فيضحي عن اليتيم من ماله، وتأخذ المرأة من مال زوجها ما تضحي به عن أهل البيت، وإن لم يأذن في ذلك، ويضحي المدين إذا لم يطالب بالوفاء، ويتدين ويضحي إذا كان له وفاء‏.‏

 وسئل عمن لا يقدر على الأضحية‏:‏ هل يستدين‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد الله رب العالمين، إن كان له وفاء فاستدان ما يضحي به فحسن، ولا يجب عليه أن يفعل ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/وقال ـ رحمه الله‏:‏

 فصل

وتجوز الأضحية عن الميت، كما يجوز الحج عنه، والصدقة عنه، ويضحي عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها‏.‏ فإن في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن العقر عند القبر‏.‏ حتي كره أحمد الأكل مما يذبح عند القبر؛ لأنه يشبه ما يذبح على النُّصُب‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لعن الله إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام‏)‏‏.‏ فنهى عن الصلاة عندها؛ لئلا يشبه من يصلي لها‏.‏ وكذلك الذبح عندها يشبه من ذبح لها‏.‏

وكان المشركون يذبحون للقبور، ويقربون لها القرابين، وكانوا في الجاهلية إذا مات لهم عظيم ذبحوا عند قبره الخيل، والإبل، وغير ذلك، تعظيما للميت‏.‏ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله‏.‏

/ولو نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به‏.‏ ولو شرطه واقف لكان شرطا فاسدا‏.‏

وكذلك الصدقة عند القبر كرهها العلماء، وشرط الواقف ذلك شرط فاسد‏.‏ وأنكر من ذلك أن يوضع على القبر الطعام والشراب ليأخذه الناس، فإن هذا ونحوه من عمل كفار الترك، لا من أفعال المسلمين‏.‏

وقال ـ رحمه الله ‏:‏

 فصل

والأضحية بالحامل جائزة، فإذا خرج ولدها ميتا فذكاته ذكاة أمه عند الشافعي، وأحمد، وغيرهما‏.‏ سواء أشعر، أو لم يشعر‏.‏ وإن خرج حيا ذبح، ومذهب مالك‏:‏ إن أشعر حل، وإلا فلا‏.‏ وعند أبي حنيفة‏:‏ لا يحل حتي يذكي بعد خروجه، والله أعلم‏.‏

/وقال ـ رحمه الله ‏:‏

 فصل

والهتماء‏:‏ التي سقط بعض أسنانها، فيها قولان، هما وجهان في مذهب أحمد‏.‏ أصحهما أنها تجزئ، وأما التي ليس لها أسنان في أعلاها فهذه تجزئ باتفاق‏.‏

والعفراء‏:‏ أفضل من السوداء، وإذا كان السواد حول عينيها، وفمها، وفي رجليها، أشبهت أضحية النبي صلىالله عليه وسلم ‏.‏

 وسئل عما يقال على الأضحية حال ذبحها، وما صفة ذبحها، وكيف يقسمها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد الله، وأما الأضحية فإنه يستقبل بها القبلة، فيضجعها على الأيسر، ويقول‏:‏ بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني كما /تقبلت من إبراهيم خليلك‏.‏ وإذا ذبحها قال‏:‏ ‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ ، ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏162163‏]‏ ‏.‏

ويتصدق بثلثها، ويهدي ثلثها، وإن أكل أكثرها، أو أهداه أو أكله، أو طبخها، ودعا الناس إليها جاز‏.‏

ويعطي أجرة الجزار من عنده،وجلدها إن شاء انتفع به، وإن شاء تصدق به والله أعلم‏.‏

وقال ـ رحمه الله تعالى ‏:‏

 فصل

الذبيحة ـ الأضحية وغيرها ـ تضجع على شقها الأيسر، ويضع الذابح رجله اليمين على عنقها، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيسمي، ويكبر، فيقول‏:‏ ‏(‏باسم الله، والله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك‏)‏‏.‏

/ومن أضجعها على شقها الأيمن، وجعل رجله اليسري على عنقها، تكلف مخالفة يديه ليذبحها، فهو جاهل بالسنة، معذب لنفسه، وللحيوان ولكن يحل أكلها؛ فإن الإضجاع على الشق الأيسر أروح للحيوان‏.‏ وأيسر في إزهاق النفس، وأعون للذبح، وهو السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها عمل المسلمين، وعمل الأمم كلهم‏.‏

ويشرع أن يستقبل بها القبلة أيضا‏.‏

وإن ضحي بشاة واحدة عنه، وعن أهل بيته أجزأ ذلك في أظهر قولي العلماء‏.‏ وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلمضحي بشاتين، فقال في إحداهما‏:‏ ‏(‏اللهم عن محمد وآل محمد‏)‏‏.‏

 وسئل عن رجل اسمه أبو بكر صار جنديا، وغير اسمه، وسمي روحه اسم المماليك، فهل عليه إثم‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا سمي اسمه باسم تركي لمصلحة له في ذلك، فلا إثم /عليه، ويكون له اسمان، كما يكون له اسم من سماه به أبواه، ثم يلقبه الناس ببعض الألقاب، كفلان الدين‏.‏

 وسئل عن الألقاب المتواطأ عليها بين الناس‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما الألقاب فكانت عادة السلف الأسماء والكني، فإذا كنوه

بابي فلان، تارة يكنون الرجل بولده، كما يكنون من لا ولد له، إما بالإضافة إلى اسمه، أو اسم أبيه أو ابن سميه، أو بأمر له تعلق به، كما كني النبي صلى الله عليه وسلمعائشة

بابن أختها عبد الله، وكما يكنون داود أبا سليمان، لكونه باسم داود عليه السلام، الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كنية إبراهيم أبو إسحاق، وكما كنوا عبد الله بن عباس أبا العباس، وكما كني النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة باسم هريرة كانت معه‏.‏ وكان الأمر على ذلك في القرون الثلاثة، فلما غلبت دولة الأعاجم لبني أمية صاروا‏.‏‏.‏‏.‏

ثم بعد هذا أحدثوا الإضافة إلى الدين، وتوسعوا في هذا، ولا ريب أن الذي يصلح مع الإمكان، هو ما كان السلف يعتادونه من /المخاطبات، والكنايات، فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه إن اضطر إلى المخاطبة، لاسيما وقد نهى عن الأسماء التي فيها تزكية، كما غير النبي صلى الله عليه وسلماسم برة، فسماها زينب؛ لئلا تزكي نفسها، والكناية عنه بهذه الأسماء المحدثة خوفا من تولد شر إذا عدل عنها فليقتصر على مقدار الحاجة، ولقبوا بذلك؛ لأنه علم محض لا تلمح فيه الصفة، بمنزلة الأعلام المنقولة، مثل أسد، وكلب، وثور‏.‏

ولا ريب أن هذه المحدثات التي أحدثها الأعاجم، وصاروا يزيدون فيها، فيقولون‏:‏ عز الملة، والدين، وعز الملة والحق والدين، وأكثر ما يدخل في ذلك من الكذب المبين، بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضد ذلك الوصف، والذين يقصدون هذه الأمور فخرا وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيذلهم، ويسلط عليهم عدوهم‏.‏

والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته، وطاعته، يعزهم وينصرهم‏.‏ كما قال تعالى ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏51‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ ‏.‏ والله أعلم وصلي الله على محمد وآله وسلم‏.‏